التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الفصل الأول من رواية "ضائعة في دهاليز الذاكرة"





أسبح بعقلي بعيدًا فى الفضاء اللامتناهي فأنسى حدود الزمان والمكان .. أضيع فى دهاليز الذاكرة المظلمة بينما أحاول اجتياز سراديبها المغلقة، ولكن سرعان ما يبتلعني الظلام فى جوفه وأجدني محاصرة بين أشباح عمالقة يتربصون بى .. فأسقط فى متاهات الظلمات اللامتناهية .. أتوه بين وجوه كثيرة وأشياء متباينة باحثة عمن ينتشلني من براثن الضياع ويمد لى يد العون فيخلصني من السقوط فى بئر النسيان السحيقة ..
********

أجلس على فراشي شاردة أحدق فى السماء وأراقب الثريا المتناثرة فى الفضاء الشاسع كلآليء مضيئة يهتدي على أثرها عابرو السبيل. ألمح فجأة شهابا لامعا يهوي بسرعة من السماء التى تبدو اليوم صافية على غير العادة فأنا أقطن مع أسرتي فى ڤيلا بالساحل الشمالي تواجه البحر مباشرة .
أستجمع أشلاء وبقايا ذكريات ضبابية مشوشة لا أدري هل حدثت لى حقيقة أم أنها كانت محض أضغاث أحلام لا أكثر ولا أقل . ؟!
أرى مشهدا كثيرا ما يطاردنى لشخص طريح على الأرض غارق فى دمائه . أشعر و كأنني أعرفه جيدا لكني مع ذلك لا أذكر من هو بالضبط؟! و لا أتذكر ملامحه بدقة . وفى أحيان آخرى آراني فى أحضان شاب لم أتبين من هو؟! ولا أين نحن بوضوح ؟!
كل ما أذكره عن حياتي أشباح و خيالات ومشاهد ضبابية ولك أن تتصور أن تحيا حياة كتلك ؛لا تذكر أي شيء عن ماضيك و لا تعرف إذا كانت تلك الذكريات القليلة حلمًا أم حقيقة ؟!
أفقت فجأة لأجد نفسى فى مستشفى لم أعهدها من قبل وسط دهشة الممرضات اللاتي أسرعن للنداء على الأطباء ليزفوا إليهن الأنباء السارة ووجوههن لم تخل قط من إمارات الدهشة الممزوجة بالفرح .
ولم أكن أقل منهن دهشة فأنا لم أعد أفهم شيئا مما يدور حولي . لم يمض الكثير حتى اصطدمت عيناي السابحتان فى ملكوت الله بامرأة ورجل فى  خريف عمرهما وبصحبتهما امرأة شابة تحمل طفلا رضيعًا.. شعرت وكأنني رأيتهم من قبل ولا أذكر أين؟!
أخذت المرأة التى تبدو على مشارف الأربعينيات من عمرها تضمني و تلثم  وجنتيّ  وهي تقول  :-
- "نسرين .. نسرين  بنتي ..الحمد لله إنك فقتي . يا حبيبتي يابنتي وحشتيني يا ضنايا . "
صرخت فى وجه الجميع قائلة :-
- أنا مين؟!  وانتو مين ؟! أنا أيه اللي جابنى هنا ؟!... ردوا ساكتين ليه ؟!
صرخت وصرخت بهستريا . أشعر بأني فى كابوس لابد أن أصحو منه . دنا مني أحد الأطباء وأمسك بذراعي وحقنني بمهديء  فاستسلمت بعده لنوم عميق . فى حقيقة الأمر  لم أنم فحسب بل غبت عن الوعي لأسبوع كامل . عندما أفقت حاول الأطباء تشخيص حالتي ومساعدتي على فهم ما حدث لي . عرفت أنني أدعى " نسرين يوسف " تجاوزت الرابعة والعشرين من عمري.
أخبروني بأنني أصبت فى حادث سير منذ خمس سنوات وبقيت معلقة بين الحياة والموت فى غيبوبة طيلة السنوات الخمس الماضية. كانت حالتي مستعصية و انقطع الرجاء فى شفائي وعودتي للحياة من جديد فكثيرًا ما فكر الأطباء  فى نزع الأجهزة عنى إلاّ أن أهلي رفضوا ذلك بشكل قاطع وتعلقوا بحبال الأمل الذائبة وحين أفقت كنت فاقدة للذاكرة تماما ومصابة بانهيار عصبي حاد .
بصعوبة بالغة تذكرت أن تلك الأسرة التى زارتني هي أسرتي ولكن أكثر ما أثار عجبي هو أن " راندا " أختي الصغرى قد تزوجت و أنجبت ذلك الرضيع " لؤي " .
مضى الآن شهر تقريبا على عودتي إلى المنزل ولكني أشعر وكأن كل شيء ليس على ما يرام .. النسيان ينهش بمخالبه الحادة فى ذاكرتي الخربة غير آبه بتوسلاتي.. أستجدي الذكريات لعل قلبها يرق لحالي ويشفق علي .
لا أذكر شيئا عن حياتي السابقة ؛ أتعاطى أدوية منشطة للذاكرة والكثير من المهدئات ورغم هذا كثيرا ما تنتابني حالات انهيار عصبى أو أبكي بشكل هستيري كما حدث منذ أسبوعين.. زارتني فتاة فى مثل عمرى تدعى " ريم " بدت مألوفة لى كثيرًا .. أتفحص بعناية أنفها الدقيق وفمها الصغير وشعرها البني المسترسل الذى توج جمالها الهاديء .. عيناي تقعان على قميصها الوردي وتنورتها المزركشة .. عرفت منها أنها كانت زميلتي بالكلية، أننا صديقتان حميمتان  وأعطتني صورًا لنا حين كنا فى الرحلات التى تنظمها كليتنا . أخذت أتذكر شيئًا فشيئًا؛ ولكن حينما اصطدمت عيناي بإحدى الصور إذ بي أرى ذلك الشاب الذي يلازمني فى أحلامي وخيالاتي .. إنه نفسه الذى يقف إلى جواري في تلك الصورة . أتذكر بوضوح مشاهد عديدة يتحدث فيها إليّ .. أبكي ويضمني بقوة إلى صدره الحنون .. وفى مشهد آخر يراقصني .. يحملني بين ذراعيه .. شخص يطلق الرصاص علينا .. السيارة التى صدمتني أراها بوضوح لونها أسود بل أذكر جيدا ملامح سائقها .
الأفكار تتزاحم بجنون فى رأسي .. أتأرجح بين كفتيّ الاحتمالات .. الأرض تدور من حولي .. ينتابني صداع حاد يكاد يفتك بي . أشعر بأن رأسي سينفجر .أصرخ و أبكي بهستيريا حتى تتصل أمى بالطبيب الذى أتي مهرولا ليحقني بمهديء أخلد بعده إلى سباتٍ عميق .  
انقلبت حياتي رأسًا على عقب منذ ذلك اليوم . بت أرى الكوابيس المفزعة و أرى نفسي في أوضاع مشينة فاضحة و أستيقظ من نومي وأنا لا أدري أحدث ذلك بالفعل ؟! . أم لم يحدث وتلك محض أحلام ؟!. أخشى بل أخجل أن أقصّها على أحد لأعرف حقيقتها . أصررت على الفهم  فلم أجد أمامي سوى الاتصال بصديقتي القديمة " ريم "  التي تركت رقم هاتفها لأمي . جائت لزيارتي مجددًا و جلسنا في حديقة منزلي وفي مواجهتنا البحر .. روائح البحر الممتزجة بعبير أزهار النرجس والقرنفل وأريج الفل والياسمين تداعب أنفي وتدعوني إلى الاسترخاء .. أنفي يلتقط رائحة ذكية استطعت بسهولة تمييز مذاق الشواء اللذيذ فيها .. يبدو أن أمي تعد وليمة من أجل صاحبتي ..  
أخبرتني تلك الصديقة أنها كانت تفتقدني كثيرًا وأن الجميع يظن أنني مت؛ وأضافت  أنها تخرّجت منذ أعوام و تمت خطبتها و أنها سوف تزف بعد شهر من اليوم إلى خطيبها؛ وقبل أن تنسى دعتني إلى حفل زفافها .
ساد صمت ثقيل بيننا لبعض من الوقت؛ كانت كلتانا تمعن النظر فى ملامح الآخرى ربما لأنها تخشى ألاّ تراها مجددا ولأنها لم تتخيل أنها سيتسنى لها مقابلة رفيقتها ومجالستها مرة آخرى .. قطعت رتابة الصمت حين سألتها عن صاحب الصورة الذي يقف إلى جواري بها . شردت قليلا حتى بدت لي للحظات وكأنها هائمة على وجهها فى ملكوتٍ آخر .. ارتسمت على صفحة وجهها النضر تعبيرات عجز عقلي عن تفسيرها .. وفي غفلة منها لمحت في عينيها دمعتين ترقرقتا فأخذت أكرر سؤالي  حتى أجابتني بتردد قائلة :-  
- نسرين أرجوكِ تقفلي الموضوع ده .
 كررت السؤال وألححت عليها كثيرا حتى قالت :-
- ده " سعد " . أنتِ و هو كنتوا بتحبوا بعض و مرتبطين لحد ما..... 
أخذت أصرخ في وجهها باكية :-
- لحد ما أيه ؟.... كملي . أوعي يكون هو ده ؟ هو اللي باحلم بيه غرقان في دمه . ماتقوليش إن ده حصل .... يعني مات ؟ ... يعني كل اللي بحلم بيه و بفتكره حصل لي فعلا .
أومأت برأسها فانهرت مجددا ودارت الارض بي .. كانت الذكريات تتلاحق على مخيلتي بسرعة البرق و أخذت أتذكر أشياء كثيرة .....
- أنا " نسرين " .
- و أنا " سعد " . 
أتذكر أنني كنت أسبح في البحر حين شعرت به  يتسلل سابحا ورائي حابسا أنفاسه .. يتحسس ظهرى بطريقة أشعلت النيران بداخلي ..  يلثم رقبتى برفق . وألتفت إليه ضاحكة فيقبلني ..
أنا و" سعد " نركض مسرعين في مكان مظلم وناءٍ ... وفي مشهد آخر أبكي بحرقة وهو يضمني و يجفف دموعي .
بعدما انتهى الطبيب النفسي من جلسته معي التفت إلى أمي وأبي مخاطبا :-
-  واضح إن المريضة بدأت تفتكر.  بس لازمها وقت علشان تستعيد ذاكرتها و يمكن ذاكرتها ما ترجعتش بالكامل .
ثم اصطحبهما خارج غرفتي التى أخذت تحاصرني بجدرانها الكئيبة وتطبق على أنفاسي حتى كدت أختنق وأوصدوا الباب خلفهم ليتركوني غارقة في ظلمات حيرتي و معاناتي اللانهائية.. إذًن أنا كنت على علاقة بشخص يدعى " سعد " ولكن كيف انتهت بهذه النهاية المأساوية ؟!.
أخذت أبكي عندما تذكرت حالته المزرية . إانتابني شعورٌ قويٌ بأن وراء وفاته سر غامض وأنه لم يمت هكذا فحسب ..!
مخاوفي تتزايد يوما بعد يوم وتصنع إكليلا من الشوك فوق رأسي، وهواجسي المجنونة تلاحقني كالظل وتتربص بي لتنقض على عقلي وتلتهم ما تبقى منه ..
سألت أمي مرارًا  عن أشياء لا أفهمها أو لا أذكرها ؛ لكنها كانت تهرب مني وتراوغني أحيانًا و تكذب عليّ أحيانًا آخرى .
أمي التى زحف الشيب إلى رأسها رغم أنها لم تتجاوز منتصف الأربعينيات من عمرها إلاّ أن العين لا تخطيء الخرائط التى رسمها الحزن على صفحة وجهها .. حين أواجهها ببعض تساؤلاتي فإنها تحاول جاهدة أن تخفي عني أحزانها خلف شبح ابتسامة باهتة وتخونها دموعها فى كل مرة فتفضح مكنونات صدرها .. 
أعطتني ردودا مقتضبة وبعد طول عناء عرفت منها أننا كنا نعيش بالكويت حتى انتهيت من دراستي الثانوية و اضطررت للسفر إلى الأسكندرية لألتحق بجامعتها والسكنى بمفردي لعام ونصف فى شقتنا القديمة التى تقع فى بحري قبل أن يأتي أهلي فجأة للعيش معي ولم تخبرني  لماذا عادوا إلى أرض الكنانة فجأة بعد غياب دام أكثر من عام ونصف !!. 
***********

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصة الصغار "عقلة الإصبع ومستعمرة الجراثيم"، في العدد الجديد من مجلة فارس للأطفال

نشرت  قصة الصغار "عقلة الإصبع ومستعمرة الجراثيم"، في العدد الجديد من مجلة فارس  للأطفال، في عدد شهر نوفمبر 2019. وهي قصة تشرح للأطفال دون الثامنة من العمر، أهمية النظافة وتبسّط لهم مفهوم الجهاز المناعي ومخاطر الجراثيم والميكروبات .

قصة الأطفال "سامى والماء" للكاتبة "آية ياسر" في مجلة "نور الصغير"

 قصة الأطفال "سامى والماء" للكاتبة "آية ياسر"، المنشورة في العدد رقم ٥ الصادر في أكتوبر، من مجلة  "نور الصغير"  المخصصة لاطفال الحضانة من 3 سنوات ل ٦ سنوات، وهي من رسوم الفنان "ابراهيم عمرو". وقصة "سامى والماء" تخاطب الصغار بطريقة مبسّطة وممتعة لتوعيتهم بأهمية الماء وضرورة الحفاظ عليه. للإطلاع على مجلة "نور الصغير"

حوار مجلة لهن مع الكاتبة الشابة أية ياسر

حوار – فاطمة بدار بأسلوبها البسيط وكتاباتها الرقيقة إستطاعت الكاتبة الصحفية والروائية الشابة أية ياسر أن تجعلنا نغوص معها عبر الذاكرة ونتوه فى روايتها الجديدة (ضائعة فى دهاليز الذاكرة ) والتى تنتمي للأدب البوليسي . وكان لـ( لهن ) الحوار التالى مع الكاتبة الشابة أية ياسر : * بداية حدثينا عن بداياتك بالكتابة ؟ الكاتبة أية ياسر : بدأت الكتابة لدى من سن 8 سنوات كنت وقتها أكتب قصص قصيرة حوالى ، وكنت أعشق القراءة ، وأحرص على القراءة فى مجال الأدب والرواية ، وبدأت أكتب رواية وأنا فى سن 16 عاما حيث كتبت رواية إجتماعية ولكن لم يتم نشرها ، وفى الجامعة كتبت بعض الروايات القصيرة ؛ ولكن (ضائعة فى دهاليز الذاكرة ) أول رواية يتم نشرها . * (ضائعة فى دهاليز الذاكرة ) ما سر إختيارك لهذا العنوان ؟ العنوان يعتبر تحليل نفسى للحالة التى عليها بطلة الرواية فالبطلة قد مرت بمجموعة من الأحداث الصعبة وفيه محاولة لإغتيالها ودخلت فى غيبوبة لمدة 5 سنوات وعندما أفاقت كانت فاقدة الذاكرة ومشوشة جداً. وكان بالنسب...