الفصل الأول
"الغرباء"
" الأحلام تتبدد .. كل شيء يذوب و يتلاشى في ذلك العالم الجنوني .. الحياة تنساب من بين أوصالي يوماً بعد يوم .. لم أعد أرى أمامي سوى العتمة .. العتمة ولا شيء آخر ؛ منذ أن هبط على رأسي أولئك الغرباء ... "
بأحرف مرتعشة سطرت "مارجريت" تلك الكلمات في مفكرتها الصغيرة .. تفتح زجاج النافذة فيخترق كيانها رياح شتوية باردة .. تحدق في الأفق الواسع .. تترقب بزوغ أشعة الفجر لتنساب مبددة الظلمة .
أخذت تفكر وتسبح بمخيلتها في عوالم التيه حيث تختلط الحقائق بالأوهام .. عادت بذاكرتها إلى أحداث ذلك اليوم الشاق ...
سيارة فارهة داكنة اللون يقودها سائق هندي في خريف عمره ؛ جاءت لتنقلها إلى البيت .
تجلس "مارجريت" على الأريكة الخلفية وتحدق في قطرات المطر المتناثرة على زجاج السيارة المغلق ..
هاتفها النقّال يصدر اهتزازات ؛ وسرعان ما تمسك به وتفتحه لتجد رسالة قصيرة قد وصلتها .. تقرأها في صمت ثم تمسحها في عجالة .
السيارة تتوقف أمام بوابة عملاقة تحيط بها أسوار شاهقة .. وما أن تجتاز البوابة وتسير على الدرب المؤدي إلى القصر الذي تحيطه حديقة أشبه ما تكون بالأحراش حتى تتراءى لعينيها سيارات الشرطة تحيط بالقصر من جميع مداخله ...
كان السيد "رمزي" زوج عمتها ممداً على الأرض جثة هامدة والدماء تحيطه من كل جانب وعلى ما يبدو أن عظامه قد تهشّمت كلياً .
قلب "مارجريت" يصدر خفقات عالية أشبه ما تكون بطبول الحرب ..
عادت الذكريات الأليمة لتلهب بسياطها مخيلتها وتراودها عن آخر ما تبقى لها من رشاد ...
كانت حينها "مارجريت" تعد عمرها على خمس أصابعها أو يزيد .. تمارس لعبتها المفضّلة " الاختباء" .. كم عشقت هذه اللعبة ؟!! .. تختبئ منزوية في أحد الأركان أو خلف الأبواب .. لم يكن يكدر صفوها في تلك اللحظات سوى ذلك الحزن الدفين ومرارة الشعور باليتم .
في تلك الليلة رأت الشيطان بأم عينيها وقد تجسد في صورة بشري يقال أنه زوج عمتها !! ؛ فما فعله في تلك الليلة ربما يعجز الشيطان نفسه عن فعله !! ..
رأته والشرر يتطاير من عينيه .. يدلف عبر الباب ثم يوصده بإحكام .. قلبها يحدثها بأن أمراً جللاً سيحدث فتؤثر الاختباء .. يخبأ شيئًا ما خلف ظهره ولكنها لم تتبينه من مخبأها هذا ..
يتسلل خلف عمتها .. يلصق مسدسه برأسها ..
العمة تطلق شهقة مكتومة .. وقلب الصغيرة "مارجريت " يكاد أن ينخلع ..
تريد أن تصرخ .. أن تطلب النجدة .. فعمتها هي كل ما تمتلكه الآن في هذه الحياة ...
الخوف جمّد أوصالها والصرخات تحجرت في حلقها .. وقبل أن تحرك ساكنًا كانت رصاصة غادرة قد استقرت في رأس العمة !! .
أرادت أن تمسك بذلك المسدس وتفرغ رصاصاته في دماغ "رمزي" ؛ لكنها لم تستطع أن تفعل شيئا سوى أن تطلق العنان لعبرات حارة تدفقت على وجنتيها ..
بكت في صمت والألم يعتصر قلبها .. ومنذ تلك الليلة لم تعد الدموع تعرف إلى عينيها طريقاً.
دفنت السر في أعماقها كي لا تلقى مصير العمة .. لم تكن تدري كيف اعتبرت الشرطة قضية مقتل عمتها انتحاراً ؟!.
لكنها الآن أصبحت تمتلك تصوراً عن كيفية حدوث ذلك ..
فعمتها أوقعها حظها العاثر في حبائل شيطان تزوجت به .. كان قادراً على شراء أي شيء بأمواله الطائلة بما في ذلك ذمم وضمائر الآخرين !!.
رأت أشياءاً لم يكن من المفترض بها أن تراها .. نبشت أسرارًا دفنت مع أصحابها ولم يعلمها سواهم ..
في الظلام وخلف الأبواب كانت تتلصص وتسترق السمع ولأنها صغيرة الحجم لم يلحظها أحد ..
في الظلام وخلف الأبواب كبرت "مارجريت" قبل أوانها وكبرت معها أسرارها ...
تعلمت أن تحبس أنفاسها وتكتم صرخاتها حتى لو رأت الجحيم بعينيها ..
أخذ الألم يعتصر قلبها يوماً بعد يوم حتى تحول إلى مأساة ..
وفي الظلام وخلف الأبواب تمخضت المأساة ومن رحمها خرج كائن أسود سواد الليل في ليلة خلت فيها السماء من أقمارها ومصابيحها ..
وفي الظلام أخذ ينمو يوماً بعد يوم ؛ لكنه لم يخرج يوماً إلى النور خشية أن يحترق وتحترق "مارجريت " معه ...
خلف الأبواب كان يختفي هناك منزوياً في أحد الأركان يراود "مارجريت " عن نفسها وعن ما تبقى لها من عقل ..
كان ينتظر أن تسمح له الفرصة بالخروج ليأخذ بالثأر القديم ..
أفاقت "مارجريت " من شرودها حين تفاجأت بأحد ضباط الشرطة يفتح باب السيارة ويطلب إليها أن تخرج منها ..
وضع القيود الحديدية حول معصميها .. قال لها إنها متهمة بالتورط في قتل الرجل ؛ فالشهود أكدوا أنها على خلاف مع "رمزي" وأنها تشاجرت معه بقسوة ليلة أمس وكانت تتوعده ..
لم تنبس ببنت شفة .. تحركت معه في صمت فعقلها كان مشغولاً بأمور أخرى أكثر أهمية بالنسبة إليها ! ..
ولمّا وجد وكيل النيابة أن لديها حجة غياب كافية عن مسرح الجريمة رأى إطلاق سراحها في الحال ؛ فالفتاة كانت في رحلة جامعية خارج القاهرة آنذاك .
عادت إلى البيت مرهقة .. بالها مشغول بأمور عدة ؛ لكن شعوراً بالراحة يشوبه فرح خفي غمرها وطغى على إحساسها بالتعب ... اليوم فقط ستهنأ بالنوم الهادئ الذي لم تظفر به منذ أكثر من خمسة عشر عاماً !.
هاتفها المحمول يصدر رنين شبه متصل ؛ لكنها لا تجيب .. يزعجها صوت الرنين فتلقي بالهاتف بعيداً في عصبية ظاهرة ..
تملأ حوض الاستحمام بالماء الدافئ وتتمدد بداخله ..
الصداع يداهمها بلا رحمة ..
تطلق العنان لأفكارها ..
هاهي قد تخلصت من بعض أثقال الماضي بعد أن رحل الشيطان عن عالمها ؛ ولكنها باتت تخشى من المجهول ..
هل يمكن أن تسوء الأمور أكثر مما كانت عليه ؟!! .
تمسك بمنشفة جافة لتزيل عن جسدها آثار الماء ..
ترتدي رداء الحمام وتفتح الباب لتسير عبر الردهة ..
راقتها كثيرًا فكرة أن تسير عبر ردهات القصر بهذا الثوب دون أن يزعجها أحد ..
في الحقيقة واتتها فكرة جنونية بأن تتجرد من الثياب .. إنها الليلة الأولى التي تهنأ فيها بالحرية ..
ظلام دامس يغطي ذلك الممر .. تتحسس طريقها متسائلة عما أطفأ المصباح ؟! ..
تتعاقب أنفاسها وتخشى أن تتعثر في أحد الأشياء ..
يصطدم جسدها بكيان ما !!.
تصدر عنها صرخة مكتومة ..
للحظات يتوقف قلبها عن الخفقان ..
هل عاد إلى الحياة من جديد ؟!!.
أم أن هذا شبحه جاء ليطاردها ويقتلها ؟! ..
صوت ذكوري يغزو أذنها يقول لها :-
• ماذا تفعلين هنا ؟!
لم يكن هذا صوت "رمزي" .. بل صوتا آخر يفيض عذوبة وشباباً ... ردت عليه بعد أن تبينت أنه لا صحة لهواجسها الجنونية قائلة :
• بل أنا من يجب أن يسألك ذلك السؤال !!.
فجأة تضاء الردهة فتقع عيناها على شاب فى نهاية عقده الثاني من العمر يقف أمامها ويرتدي بذلة أنيقة بدون ربطة عنق ..
ملامح وجهه بها شيء من الوسامة على الرغم من قسوة نظراته ..
أخذ يتفحصها من رأسها حتى أخمص قدميها بنظرات استهزاء شابتها كراهية ملحوظة ..
" مارجريت " تصاب بالارتباك .. حمرة شديدة تتسرب إلى بشرة وجهها الناصع البياض حين وقعت عيناها الرماديتان على رداء الحمام الذي ترتديه .. حمدت الله على أنها لم تنفذ فكرتها الجنونية بالتعري .
أرادت أن تخفي ارتباكها فقالت بعدائية واضحة :
• إلام تنظر ؟!.
رد عليها باحتقار قائلاً :
• إلى الساقطة التي قتلت عمي ..
ترفع ذراعها عالياً وتهمّ بأن تهوى بها على صفحة وجهه لولا أنها سمعت صوتاً غاضباً يقول :
• أنتما ماذا تفعلان ؟
وسرعان ما تراءى لها رجلاً في الأربعينات من عمره يبدو عليه الوقار ، لم تعد "مارجريت" تعي شيئاً مما يحدث حولها ؛ فقالت وقد جن جنونها تقريباً :
• من أنتما حتى تقتحمان منزلي وتهيناني ؟! .. سوف أتصل بالشرطة .
الشاب ذا النظرات الثاقبة يقول :
• إنه منزل عمي وبصفتنا الوريثان الوحيدان له فقد صار ذلك المنزل ملكًا لنا الآن . وإن كان هناك من يجب أن يرحل فورًا فهو أنتِ ..
• مارجريت بتحدي : ماذا تقول ؟؟
• الرجل الوقور : أنتِ محقة ما كان يجب أن نقتحم المكان بدون إذن منكِ ولكننا لم نعلم بأنكِ لازلتي هنا ..
• الشاب معترضًا : من تلك حتى نستأذنها يا أخي ؟!
• الرجل محتدًا : هلا صمتت قليلاً يا "بهاء" .. أعتذر عن فظاظة أخي فهو حزين لوفاة عمه ..
يلوح على وجهها شبح ابتسامة ساخرة وتمتمت قائلة :
• لا يبدو ذلك .
• الرجل : أعرّفك بنفسي أنا الدكتور "نزار" ، وهذا أخي الأصغر "بهاء " إنه مندفع قليلا ولكنه طيب القلب .
"بهاء" يولى ظهره لأخيه ووجهه لا تبدو عليه إمارات الارتياح ؛ أما الأخ الأكبر فيتابع حديثه قائلاً :
• إذا˝ أنتِ "مارجريت" قريبة زوجة عمي – رحمة الله عليهما - .
"مارجريت" تحدّث نفسها قائلة :
• وهل تجوز الرحمة على رجل مثل رمزي ؟!.
ثم تقول موجهة كلامها للرجل الواقف أمامها :
• وأنتم جئتم لتقيمون هنا ؛ أليس كذلك ؟
• نزار : نعم وأرجو ألاّ يزعجكِ ذلك ؛ فأنا أتفهم جيدًا أنكِ عشتِ هنا طيلة حياتك وأنه لا مكان آخر لديكِ لتسكني فيه .. أعتقد أن هذا القصر الفسيح لابد أن يتسع لنا جميعاً يا عزيزتي .
"مارجريت" ووجهها خالي من التعبيرات تقول:
• افعلوا ما تريدون ودعوني أذهب إلى غرفتي لأرتدي ثيابي .
"نزار" يفسح لها الطريق مرتبكاً وقد أدرك فقط الآن أنها ترتدي رداء الحمام !! ...
*********
تعليقات
إرسال تعليق